24‏/12‏/2009

سعيدة بك...


ألقت زهرة بظهرها النحيف على الكرسي وعينيها تتفحص كومة الأوراق المبعثرة فوق مكتبها، وقد تناثر منها الألم والأسى، الظلم وجراح الدماء في زمن فقدت فيه معاني الأمن والحقوق والحريات ، في زمن أباح كل المحرمات حتى أبكت الطيور فوق أغصانها وحركت الصخر من مكانه ليرثي أمجاد أمة ضاع في سكون ظلام بهيم وغياهب فج عميق.


هزت زهرة رأسها بقوة عسى أن تطرد تلك الأشباح المرعبة من مخيلتها، لكن سرعان ما وجدت نفسها تسبح في تلك الذكريات رغم أنفها، فأغمضت عيناها لتخفي دموع حسرة انهمرت فجأة على وجنتيها كضربات رعد صاعق فجر معه حمم زلزال غاضب جرفت معها جزء كبيرمن آلامها النفسية الدفينة . فمدت يديها لتلك الكومة وقلبت بعض الأوراق فوقع نظرها على مسودة لائحة طويلة كانت قد أعدتها لبحث أنجزته سابقا، فقرأها بغير اهتمام إلى أن وقع نظرها على حدث جعلها تهتم بفحواها وتحاور ضميرها المتوجع من هول ذلك الكم الهائل من بؤر النزاع في العالم خصوصا العربي وما ترك وراءه من كوارث و حروب و دمار وفساد وطفولة بريئة تكابد المشاق، ونساء تئن تحت قسوة الظلم وشح الموارد، بل ترك وراءه جماهير مستضعفة ترزح تحت استبداد حكام فاشلين وقد رضوا أن يبقوا تحت أثقال الاستبداد إلى ما شاء الله .


أي أمل تبقى في هذه الحياة التي نشرت ظلها الأسود فوق الجهات، فوق كل المنارات حتى قبل وصول فصل الخريف ، ويا للعجب لقد كشفنا عن طواعية عورات عروبتنا، بأفعالنا وسوء إرادتنا وإدارتنا لموارد دولنا الكثيرة والغنية بمعناها الواسع لدرجة أننا كسرنا مرآتنا الجميلة والتي عكست بدورها أبهى وأزهى صور تلك العروبة أمام العالم.


فالصمت عن الظلم يجيز انتهاك الحرمات والمحرمات وقد يكون سببا كافيا لوقوفنا على أنقاض حقوق كرامة عربية مهجورة بيعت في المزاد العلني ودفع العرب ثمنها بعملة موحدة وهو ذلك الصمت المخزي والتبعية المرعبة، صمت نقش صفحات التاريخ بمداد التقزز والغضب والخذلان . فلا جدوى بعد اليوم من نشد الدليل مادامت الأمم غير قادرة للوقوف رجلا واحدا أمام الزوابع في إبانها بل استسلمت لوضعها ورضت به و لم يعد للعروبة ذرة تلتهب بنار الغضب في ثورة جنونية لكرامتها ولعل ما خفي من هذا أدهى وأفظع.


أطلقت زهرة ضحكة مبحوحة وهي تحاور ضميرها المتوجع، كيف ستتخلى عن ذكريات رغم فساوتها؟ اجل تعلقت بها كما يتعلق الرضيع بثدي أمه لأنها تعرفها حق المعرفة وهي التي ذاقت عذاب مخاضها الذي أبهج صدرها واسعد قلبها والتي أدمنت الركوض صوبه كلما شعرت برغبة في الانزواء والبوح وقد تكون قد استوفت حظها منه قبل أن يدركها فضاء تتحرك فيه الأحداث مصحوبة بمراحل لها شروط حسب ظروف تفرض خطوطا حمراء لا يجوز تجاوزها وان حصل العكس أصبح الفرد عاجزا لا يتوفر على أدنى ضمانة تجعل مستقبله آمنا أو على الأقل واضحا.


اعتدلت زهرة في جلستها من جديد ارتجف صوتها فأخرجت تنهيده انفجرت من صدرها وانطلق ما فيها وهي تشعر بأنفاسها تتردد في ثقل وصعوبة فغالبت إرادتها وصرخ لسانها مهما حصل لن ترضى بان تكون نهاية ذكرياتها مثلما كان يسوق المصريين أجمل فتياتهم لتزف عروسا للنيل كي يهبوا الخبز والخصب، لن يعتريها القلق على مصير أوراقها بعد اليوم لأنها مهما سعت لن تجد مكانا يحتويها مع وحدتها خصوصا ساعات انفرادها إلا أن تتفحص و تتذكر وتتألم وتسعد بين أحضان أوراقها المبعثرة .


شكرت الله على اتخاذها ذلك القرار الصائب الذي اهتدت إليه بعد عناء ذهني كبير خلصها بدوره من حمل ثقيل تزحزح عن عاتقها وهوى بعيدا دون رجعة.

ليست هناك تعليقات: